Powered By Blogger

dimanche 25 novembre 2012

محاضرة السيد رشيد صفر الوزير الأول الأسبق في مؤسسة التميمي للبحث العلمي.

سمينار الذاكرة الوطنية وتاريخ الزمن الحاضر
مع السيد رشيد صفر الوزير الأول الأسبق حوار حول :
أية دروس من قراءة الحركة الوطنية وبناء الدولة الوطنية ؟
يوم السبت 14 جانفي 2012


د. عبد الجليل التميمي:
كنا قد دعونا السيد رشيد صفر إلى السمينار الذي عقدناه حول المرحوم الهادي نويرة وفوجئ الحاضرون بمحتوى تدخله عندما أمدنا بمعلومات مباشرة ودقيقة حول شخصية المرحوم الهادي نويرة رجل الدولة بامتياز. وقد تأكد لي أن دعوة أمثال هاته الشخصيات الوطنية ستفيد ولا شك، قاعدة البيانات حول الحركة الوطنية وبناء الدولة الوطنية. على ضوء ذلك دعوت السيد رشيد صفر لتشريفنا على منبر المؤسسة لينقل لنا جزءا ثمينا من ذكرياته.
التحق رشيد صفر بمعهد الدراسات العليا من أكتوبر 1953- إلى جانفي 1957، أين تابع دراسته في الحقوق والاقتصاد والتاريخ. ثم تحول إلى باريس وتابع تكوينه بالمدرسة الوطنية التطبيقية للأداءات التابعة لوزارة المالية والاقتصاد الفرنسية وأنهى دراسته العليا بكلية السربون من أكتوبر 1958 إلى جوان 1959. وهو يعد من أوائل التونسيين الذين اهتموا بشؤون الإصلاح الاقتصادي والمالي. وقد تولى عديد المهام الإدارية السامية بوزارة المالية منها الأمانة العامة لوزارة المالية من 1974 إلى سنة 1977. ثم وقع تعيينه وزيرا للصناعة والطاقة والمناجم (1977-1979) ثم وزيرا للدفاع (1979-1980) ثم وزير للصحة (1980-1983) ثم وزيرا للاقتصاد الوطني في أواخر سنة 1983 ووزيرا أول منذ جويلية 1986 إلى أكتوبر 1987. وفي شهر أوت 1986 تقدم إلى مجلس النواب بقانون إضافي معزز ببرنامج إصلاح هيكلي للاقتصاد والمالية مساند من طرف البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. كما عرض في شهر ماي 1987 على مناقشة ومصادقة مجلس النواب المخطط السابع للتنمية لفترة 1987-1991.
والسيد رشيد صفر هو ابن الزعيم السياسي المحامي الطاهر صفر، أحد مؤسسي الحزب الدستوري الجديد مع ثلة من القيادات الأخرى من الحبيب بورقيبة ومحمود الماطري وبصفة أخص يوسف الرويسي الذي منه انطلقت الفكرة الأولى للانشقاق على الحزب الدستوري وتكوين الحزب الدستوري الجديد، وليس من الرئيس الحبيب بورقيبة وهذه من المغالطات الشائعة جدّا حتى يومنا هذا !
وقد اشتغل بعد ذلك السيد رشيد صفر كسفير لدى المجموعة الأروبية من 1988 إلى 1992، ثم تم تعيينه رئيسا للهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية 1993-1996 وقد ترأس اللجنة التي أعدت التقرير الاستشرافي المتعلق بتصور الخطوط الكبرى لتطور تونس في القرن 21 وتقرير ثان حول سبل تحفيز الاستثمار التونسي انطلاقا من سنة 2000. وقد صدر له سنة 1999 كتاب بعنوان"mondialisation , régulation et solidarité" بالفرنسية لدى دار نشر لارماتان بباريس. ويتعلق هذا الكتاب أساسا بمقترحات لإصلاحات جذرية تهدف إلى الحد من تقلبات السوق المالية والنقدية العالمية وملائمة تدخلات صندوق النقد الدولي مع مقتضيات العولمة الاقتصادية وحاجات الدول النامية وكذلك إصلاح المنظمات الدولية للحد من خطورة الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية وتحقيق دمقرطة اتخاذ القرارات على الصعيد الدولي حتى تكون فيه أكثر عدالة. وهكذا اتسمت مسيرة السيد رشيد صفر بالتنوع والثراء وساهم كخبير مالي واقتصادي في بناء الدولة التونسية الناشئة.
ونظرا لهاته المسيرة في حقبة نسبيا طويلة وتشرب رشيد صفر بالبعض من خصوصياتها واستيعابه الدقيق لمسيرة والده المحامي الطاهر صفر، حصلت للسيد رشيد رؤية وتحليل حول منهجية تسيير الحزب الحر الدستوري الجديد وبداية الانحرافات والأخطاء التي ارتكبت قبل عهد الاستقلال، هذا ما يفسر مدى انسداد وانكسار المسار الديمقراطي في بلادنا. وإن سجل الذاكرة الوطنية مفتوح في المؤسسة لاحتضان شهادات الجميع من أمثال السيد رشيد الذي نحييه ونشكره على قبوله دعوتنا وتشريفنا على منبر سمينارات الذاكرة الوطنية.
وعلى ضوء ذلك سوف يحدثنا السيد رشيد ويتحاور معنا حول مسيرته السياسية وتوليه عديد الوزارات : الصناعة والمناجم والطاقة والدفاع الوطني والصحة العمومية والاقتصاد الوطني والمالية. وقد تولى الوزارة الأولى في 8 جويلية 1986 لمهمة إعادة التوازن المالي والاقتصادي للدولة. وبعد استرجاع الاقتصاد التونسي شيئا من فعالياته وصحته وبعد إصدار المخطط السابع للتنمية لفترة 1987-1991 المجسم للإصلاح الهيكلي، غادر رشيد صفر مهامه كوزير أول يوم 2 أكتوبر 1987 في ظروف غريبة جدا سيكشف لنا عن تفاصيلها الخفية. ويؤكد السيد رشيد صفر أن فترة تعايشه مع بن علي كانت بائسة حقا وتخللتها كثير من العقبات.
يسعدني أن يشرفنا الأستاذ رشيد صفر وليسمح لي قبل أن أعطيه الكلمة أن أذكر عن سبب التجائنا إلى جمع شهادات الفاعلين التونسيين في بناء الدولة الوطنية, حيث التجأنا إلى هذا الأمر لأن أرشيف الدولة مغلق وأرشيف الرئاسة وأرشيف الداخلية, وكل أرشيفات الوزارات مغلقة فرأينا أنه على دعوة الفاعلين الذين بإمكانهم تقديم معلومات جوهرية، وعندما قمنا بذلك اكتشفنا أن ثمة ما يسمى بأرشيفات الصدور وكنا دوما نطالب في كلماتنا وتدخلاتنا الموجهة لبن علي أو كل الإدارات أن يسمحوا لنا بالاطلاع على تلك الأرشيفات, إلا أنهم رفضوا ذلك, لكن أريد أن أعلن خبرا مفيدا ومهما جدا وتاريخيا في نفس الوقت أن هذا الأسبوع دعاني رئيس الجمهورية د. المنصف المرزوقي صحبة هشام جعيط وسي جلول عزونة على أساس استشراف رأينا حول بعض القضايا والمسائل الثقافية. وقد مكننا من الاطلاع على أرشيف الرئيس بورقيبة والذي لم يقع فتحه على الإطلاق وطلب من ثلاثتنا أن نقترح عليه تصورا ما لفتحه لعموم الباحثين, وإني شخصيا أنوه أولا بهذا الموقف الشجاع من رئيس الجمهورية الرجل المثقف, المدرك والواعي, أن حدثنا حول أرشيف الرئيس بورقيبة، طالبا منا كيف يعمل على إتاحته للباحثين جميعا وهو شيء رائع جدا, وهذا يتم لأول مرة ويحصل في العالم العربي ! إذ بعد اندلاع الثورة التونسية ولا دولة عربية استطاعت أن تفتح أرشيفات الرئاسة وأرشيفات الوزارات الأخرى على الإطلاق وبطبيعة الحال أنا أتصور أن مكان هذا الأرشيف هو الأرشيف الوطني باعتباره المؤتمن على الذاكرة الوطنية وسي المنصف قال لنا إنه مستعد لتطبيق أي اقتراح بناء في توظيف هذا الرصيد, وأعتقد أن هذا شيء جديد وكما أعطت الثورة التونسية الإشارة لأهمية التحولات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي بل في العالم كله، فإن موقف سي المنصف المرزوقي لا بد أن يصب في هذا الانفراد وهذا الاستثناء المعرفي الأرشيفي لتونس.
وسي هشام جعيط وجلول عزونة وأنا عبرنا على مدى الارتياح العميق إلى هذا التحول الهام جدا في فتح أرشيف الرئيس بورقيبة، والمهم عشنا مرحلة جديدة ونأمل أن يدرك المؤرخون رجال الإعلام مدى هذا الموقف العميق لسي المنصف المرزوقي فشكرا له, هذه معلومة مهمة جدا باعتبار أننا في حركية وفي سيرورة الذاكرة الوطنية.
نرجع إلى سي رشيد صفر والجميع يعرف مكانته ولديه معلومات هامة جدا سيدلي بها, حول مصير هذا البلد ومكانة الطاهر صفر في مصير هذا البلد وهو من أول المؤسسين لحزب الدستور الجديد على الرغم من أن يوسف الرويسي هو الذي كانت له المبادرة الأولى للانشقاق عن الحزب القديم, وقد ذكّره محي الدين القليبي في المشرق عندما قال له معاتبا : أنت السبب في الانشقاق وانبثاق الحزب الدستوري الجديد. والدك يا سي رشيد لعب دورا أساسيا وستحدثنا الآن عن هذا الدور وعن ذكريات الوالد والعائلة، وهذا لعب دورا كبيرا في تلمس خصوصيات الطاهر صفر, وبالتالي دورك أنت هو دور كبير, نأمل أن تساعدنا على تلمس هذا الدور في بناء الدولة الوطنية وقد مررت بأغلب الوزارات السيادية. وكانت لك لقاءات ولديك الكثير مع الرئيس بورقيبة ومع غيره من القيادات السياسية, كل معلومة تقدمها لنا سي رشيد سيكون لها أكثر من أهمية كبيرة, لأننا في فضاء أكاديمي يتعامل مع الحقيقة ومع الصدق ومع الشفافية وبالتالي هذه المعلومات سوف تسجل وتنشر في كتب, وهي الكتب التي أصبحت الآن مراجع أساسية, وسوف ننشر الأسبوع القادم كتابا جديدا بعنوان: الدور المغيب في مسار الحركة الوطنية بالجهات: المنستير وسوسة ونابل والمهدية, وهي معلومات لها أهمية كبرى ودعونا لها القيادات الوطنية بكل من سوسة والمنستير ونابل والمهدية, وقد أنجزنا سمينارا على صفاقس وآخر على القيروان وعلى بنزرت وسمينار على المقاومة في الجنوب, وهاته الجهات غيبت فعالياتها الوطنية وأنت أحد بناة هذه الدولة, وبحضور سي الهادي البكوش وبعض السفراء والوزراء وبعض رجالات الدولة التونسية الذين يشرفهم أن يكونوا تونسيين. شكرا لبعض الصحافيين الذين يواكبون هذه الفعاليات الأسبوعية وشكرا للجميع.
رشيد صفر:
شكرا جزيلا للأستاذ عبد الجليل التميمي على هذه الكلمات اللطيفة التي في الحقيقة تتجاوز شخصي, ولا أدعي أني كنت من بناة الدولة التونسية الحديثة في مرحلتها الأولى, إذ كانت مساهمتي متواضعة جدا. وإنه بحكم سني وبحكم مواصلة تعليمي العالي في تلك الفترة 1953-1959 بقيت مساهمتي في السنوات الصعبة الأولى بعد الاستقلال متواضعة. وفي مجال المسؤوليات السياسية وبعد أزمة تعميم التعاضد وقع الاستنجاد بي غالبا في ظروف استثنائية وعصيبة مرت بها البلاد, وتوجد في الحقيقة في تونس إخوة ومسؤولون سابقون أكثر مني دراية ليثروا مخزون الشهادات المتوفرة لديكم بالنسبة لفترة بناء الدولة مباشرة بعد الاستقلال. وبهذه المناسبة لا يسعني إلا أن أعبر لكم عن تقديري الكبير للمجهود المتواصل الذي تقوم به مؤسستكم ولن أتردد على مدكم بما عندي كإضافة كل ما أمكن ذلك.
1ـدولة الاستقلال أنجزت الكثير ولكن لم تتوفق إلى بناء نظام سياسي ديمقراطي.
شكرا مجددا إذا على الاستضافة وشكرا على  هذا الحضور المكثف في هذا اليوم التاريخي الذي تحتفي فيه بلدنا بكل خشوع بالذكرى الأولى لثورة 14 جانفي 2011 ثورة الحرية والكرامة. هذه الحرية والكرامة التي كثيرا ما وقع الإصداع بها في الخطب والمقالات قبل الاستقلال ولم يقع تجسيمها تجسيما كاملا من خلال دولة الاستقلال. هذه الدولة التي كان من المفروض أن تكون فيها المؤسسات الدستورية  ـ وخصوصا منظومة العدالة ـ مؤسسات مستقلة بالفعل عن السلطة التنفيذية حتى تضمن الحريات الأساسية لكافة المواطنين وفي مقدمتها حرية التعبير واحترام حقوق المواطنين. تلك السلطة التي ضحى شعبنا الأبي وزعماؤه الأبرار بالكثير من أجل استرجاعها من مخالب المستعمر وكانوا عاقدين العزم ـ عند استرجاعها ـ على تفعيل مراقبة أعمالها عن طريق برلمان مستقل يقوم بدوره بنجاعة و يمثل بحق مختلف شرائح المجتمع ومختلف جهاته.
وبقيت السلطة في بلادنا بعد الاستقلال على غرار جل الدول العربية وطيلة نصف قرن، محتكرة في يد واحدة، ولكن كانت اليد الأولى مصلحة وعبقرية ولكنها فقدت قدراتها ومواهبها مع تداعيات المرض ثم الشيخوخة لرئيس الدولة يومئذ. وكانت اليد الثانية غادرة فبعد أن وعدت الشعب بالديمقراطية التفت تدريجيا على الحكم حتى أصبحت يدا أثيمة وناهبة ثم مجرمة. في هذا اليوم يملي علينا الواجب قبل كل شيء أن نترحم على كافة شهداء الوطن الذين ضحوا بأرواحهم الزكية في سبيل تحرير البلاد من المستعمر وكذالك كل الذين واصلوا النضال في سبيل تجسيم الحرية والكرامة والحقوق الأساسية لكافة الموطنين والمواطنات، وذلك انطلاقا من شهداء معارك التحرير من الاستعمار حتى شهداء ثورة الحرية والكرامة الذين فتحوا لنا صفحة جديدة في تاريخنا مطالبين باستكمال الأهداف الأساسية للاستقلال.
الواجب يملي علينا اليوم أن نعتذر لشعبنا لعدم قدرتنا للتصدي لحكم برزت الآن جسامة تجاوزاته ولم نكن نسمع عنها إلا القليل عبر الاشاعات .
نتمنى أن تحافظ بلادنا مع هذه الصفحة الجديدة لتاريخنا على كل ما تحقق من مكاسب عديدة، ميزت بلادنا منذ السنوات الأولى من الاستقلال وفي مقدمة هذه المكاسب تحرير المرأة وتعميم التعليم والتفتح على العالم لتملك من العلوم و المعرفة. كما نتمنى أن تؤسس هذه الصفحة الجديدة لتجسيم الديمقراطية الحقيقية حتى نتدارك ما فاتنا بالقطع النهائي مع الأخطاء والانزلاقات والانحرافات الخطيرة التي بلغت ذروتها في بلادنا خلال العشرية الأخيرة. وقد كان جيلنا عاجزا عن التصدي لسيل من الفساد الجارف. ولم تكن لي ولا لأغلب أبناء جيلي الجرأة - التي تحلينا بها في شبابنا تحت جبروت المستعمر- للإصداع جهارا بما كان يخالج نفوسنا من إحباط وتنبؤ بسير بلادنا إلى الهاوية في السنوات الأخيرة وخصوصا منذ أحداث الحوض المنجمي بقفصة في سنة 2008. والواجب يملي علينا اليوم أن نعتذر لعدم قدرتنا للتصدي لحكم برزت لآن جسامة تجاوزاته ولم نكن نعلم منها إلا القليل.
وجاءت ثورة شباب 2010 و2011 لتكسر القيود. وكنت من بين العاجزين عن الإسهام في تفكيكها أو حتى في التخفيف من وطأتها. فتحية إكبار وتقدير لشبابنا ولكل من استطاع الإسهام معه في إسقاط نظام أصبح جائرا وشموليا وفاسدا !
والشكر مجددا لمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات التي يديرها ويرعاها بكل اقتدار الأستاذ عبد الجليل التميمي لما بذلته من مجهودات متواصلة في سنوات الجمر لفسح المجال واسعا لتوفير قاعدة معلومات متنوعة ومخزون من الشهادات الثرية التي تعين المؤرخين والباحثين على التدقيق وإعادة كتابة تاريخنا بصفة موضوعية ونقية بعيدا عن كل توظيف أو انحياز إلى تيارات إيديولوجية معينة.
3ـ إن الاخطاء والانزلاقات التي سنتعرض للبعض منها لا تنقص شيئا من تقديرينا الصادق للانجازات الكبرى التي تحققت منذ الاستقلال وغيرت وجه الوطن.
إن الهدف الأساسي حسب تصوري من حوار اليوم، يمكن في محاولة متواضعة للإسهام في استخراج بعض الدروس والعبر من عينة من الأحداث والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها بلادنا, ابتداء من ثلاثينات القرن الماضي حتى سنة  2010 إذا سمح الوقت بتناول هذه الفترة الطويلة . وأريد في البداية الإشارة الواضحة إلى أن الأخطاء والانزلاقات التي سنتعرض لها لا تنقص شيئا من تقديرنا الصادق للإنجازات الكبرى التي تحققت منذ الاستقلال وغيرت وجه الوطن، و ويبقى تقديرنا متواصل لقائد تحرير وطننا وباني دولة ما بعد الاستقلال الزعيم الحبيب بورقيبة. و ولن ننسى كذلك واجب تقديرنا لزعمائنا ولمناضلي ومناضلات الحزب الحر الدستوري محرر الوطن وباني الجمهورية الذي أعتز أن انتميت إليه منذ الشباب وكنت أمين ماله وأمينه العام في ظروف جد صعبة يعرفها الجميع. وتحية إخلاص لكل من عمل معي في تلك الفترة الحالكة متألما كما تألمت وأرهق نفسه, كما أرهقت نفسي حتى خففنا قدر الإمكان على شعبنا وطأة الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان سائدا في تلك الفترة وأقصد بالخصوص فترة 1986 -1987. وقد أدى إجمالا جيلنا الواجب نحو الوطن ونحو الشعب حسب ما يمليه الضمير في نطاق ما كانت تسمح به الظروف وجنبنا الدولة الانهيار والإفلاس.
والحق يجب أن يقال: لقد تميزت بلادنا, من حسن حظها, في مختلف مراحل تاريخها المعاصر بعدد كبير من الإطارات والمناضلين والمواطنين الأحرار في كافة الإدارات والمؤسسات العامة والخاصة الذين تحلوا بالقيم العليا والكفاءة الثابتة ونكران الذات وبقوا بعيدين كل البعد عن ملابسات التكالب عن الحكم وعن السعي للمناصب أو الكسب غير الشرعي ـ الذي إنزلق فيه مع الاسف البعض ـ وكان دوما ديدنهم القيام بالواجب والحفاظ على المصالح العليا للبلاد  كل من موقعهم. وهذا العنصر يفسر إلى حد كبير ـ حسب تقديري ـ تمكن تونس من تحقيق استمرارية الدولة والقيام بدورها الأساسي وحماية الشعب قدر الإمكان من التداعيات الخطيرة للأزمات المتتالية التي مرت بها البلاد وبقيت صامدة وواصلت تقدمها وتنميتها ولو بتعثر أحيانا... فإلى هؤلاء جميعا تقدم أجمل التحيات إن كانوا أحياء ونترحم على أرواحهم الطاهرة داعين الله عز وجل أن يمدهم برحمته الواسعة إن كانوا قد غادروا هذه الدنيا الفانية.
4ـ السؤال المحوري و المؤرق: لماذا لم تتجذر في مجتمعنا ثقافة الديمقراطية الحقيقية وثقافة حقوق الانسان منذ بداية الحصول على الاستقلال؟
أنطلق في هذا الحديث معكم من هذا السؤال المحوري و المؤرق: لماذا لم تتجذر في مجتمعنا ثقافة الديمقراطية الحقيقية وثقافة حقوق الإنسان ودولة القانون الحق مع بداية الحصول على الاستقلال ؟ وهذا في الوقت الذي كانت بلادنا مؤهلة موضوعيا لذلك أكثر من بقية الدول العربية الإسلامية, وهذا نظرا لعدة عوامل تاريخية وتربوية وبالخصوص نظرا لغزارة الحركة الفكرية السياسية والثقافية الذي ميزت نخبنا قبل الاستقلال, ومنذ القرن التاسع عشر وخاصة في ثلاثينات القرن العشرين؟ هل كانت الأسباب تاريخية بحتة؟ أم هي نتاج طباعنا وشخصيتنا ومزاجنا؟ أم أننا لم نحسن تجذير السلوك الديمقراطي أثناء مسار الحركة الوطنية؟ أم إننا لم نعمق التفكير في قضية الغاية والوسيلة في مجال العمل السياسي وقضية القيم والأخلاق في الشأن العام؟
ألم يقل الشاعر الفذ أحمد شوقي وهو على حق:
 "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت, فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا".
فهل نبل الهدف يبرر استعمال كل الوسائل حتى القذرة منها... وقد قال الرئيس الحبيب بورقيبة في خطاب له بتاريخ يوم 10 جويلية 1965: " الغاية لا تطهر إلا بطهارة الوسائل المستعملة لبلوغها, وإلا فهي مهددة في جوهرها بحكم ما يتسرب إليها من فساد؟" هل ألتزم دوما الرئيس بذلك وهل طبقنا هذا المبدأ الأساسي في كل المجالات؟ هل التزم جميعنا بذلك الشعار الذي طالما رددناه: "الصدق في القول والإخلاص في العمل" ؟...وهل أقلعت نخبنا السياسية عن الميكيافلية القروسطية؟
أقترح أن تكون هذه الأسئلة المؤرقة حاضرة دوما في أذهاننا أثناء هذه المحاولة المتواضعة والتي سوف أستحضر فيها بعض الذكريات عن مسيرة والدي مع رفيق دربه الرئيس الحبيب بورقيبة, ثم أنتقل باقتضاب إلى عينة من الأحداث التي عايشتها والتي كان بالإمكان تفاديها لو توخينا المنهج الديمقراطي الحقيقي ولو على أسس المنهجية المرحلية التي ميزت التفكير السياسي للزعيم الحبيب بورقيبة !
أعتقد أن هذه المجموعة من الأسئلة تبقى محيرة وإذا لم نجب عليها بكل موضوعية في هذه الفترة التاريخية الهامة, فسنعرض وطننا إلى نكسة ثانية تكون في الظرف الاقليمي والعالمي الحالي عواقبها وخيمة جدا وتهدد حتى كيان الدولة.إن الظرف الآن بتحدياته الجسام يحتم علينا أن ننطلق في بناء نظام سياسي ديمقراطي بحق, نظام سليم يصمد أمام الهزات. إن الديمقراطية الحقيقية بما فيها من مخاطر تبقى أفضل النظم السياسية وجميعكم يعرف الكلمة الشهيرة المحسوبة على مقولات "ونستون تشرشيل": الوزير البريطاني الأسبق, "الديمقراطية ليست بنظام مثالي ولكنها أقل الأنظمة نقائص",  وكلنا يعرف إن النموذج المثالي لا يوجد فوق الأرض ولا توجد المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون, ولكن بين مدينة فاسدة و ناهبة ومدينة ترسي قواعد نظام يحاول ويسعى موضوعيا لإثبات حقوق الناس ويدعو المواطن إلى القيام بواجباته واحترام حقوق الآخرين, هنالك فرق شاسع لننطلق الآن في التعمق في بعض الأحداث التي عاشتها بلادنا أثناء معركة التحرير وأثناء بناء دولة ما بعد الاستقلال، واستخلاص كل العبر منها حتى لا نعيد نفس الأخطاء.
ولا يجوز البتة ـ حسب تقديري ـ أن نسمح لأنفسنا في تقييمنا لتاريخنا المعاصر بأن نضع الفترتان: فترة الرئيس بورقيبة ودولة ما بعد الاستقلال, وفترة بن علي في نفس الواد وأن ننعتها بنفس الوصفات كما أسمع ذلك في كثير من التصريحات, فهذا ليس فقط فيه إهانة لزعيم أحببناه وقدرناه وبقينا نكن لتضحياته الجسيمة وعبقريته كل التقدير بالرغم من الاغلاط والنقائص. و أقول إن في مثل هذا التقييم المخطئ إهانة لكل الشعب التونسي ومناضليه وشهداءه و وحتى إهانة بما فيهم من يتفوه بهذا الخلط: نعم هم أناس يهينون أنفسهم ووطنهم ويحطون من مستواهم وينزلقون في منزلق خطير.إن الحكم النزيه عن مرحلتين مختلفين يجب أن يوضع في إطارهما العام وفي محيطهما الجيوسياسي والتاريخي, ولا يمكن أن نحكم على الفترة البورقيبية دون أن نضعها في الإطار الزمني والجيوسياسي الذي عاشته, وبالرجوع إلى تلك الفترة نلاحظ بسهولة أن تونس كانت في مقدمة الدول الأفريقية التي استقلت وتوفقت بسرعة إلى بناء دولة عصرية, و سبقتها  في الاستقلال فقط ليبيا, التي تحصلت على استقلالها في ظروف نسبيا سهلة بعد انهيار إيطاليا في الحرب العالمية الثانية وكان تحصيل تونس على استقلالها صعبا وصعبا جدا وكان بناء الدولة الجديدة ليس بالأمر الهين.
 كان من المفروض أن يبدأ ترسيخ  الثقافة الديمقراطية بممارستها داخل الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني سواء أثناء معارك التحرير أو بعد الاستقلال.
وفي هذا السياق أريد الاشارة إلى محادثات عديدة دارت بين والدي وصديقه الحميم الزعيم الحبيب بورقيبة حول منهجية التحرير من الاستعمار وتأثرهذه المنهجية فيما بعد على طبيعة النظام السياسي بعد الاستقلال. إن والدي ربما كان أقرب من المفكر السياسي الحر وبعيدا عن السياسي المحترف الذي يكون من بين أهدافه الأولى تكوين شبكة من الاتباع ومن موالين له. وكانت حواراته الحرة عديدة مع بورقيبة لتصور المنهجية التي يتعين إتباعها من طرف الحزب الحر الدستوري الذي انشق عن الحزب القديم لأسباب يعرفها الجميع, وهذه المنهجية تهدف أساسا إلى بعث حزب ديمقراطي جماهيري على غرار الأحزاب الغربية وغير الشمولية. وهذا ما صدع به والدي من اليوم الأول ضمن الكلمة التي افتتح بها مؤتمر قصر هلال الشهير سنة 1934.
وعندما توفي والدي كنت في التاسعة من عمري ولكن أخبرني بالخصوص عمي أحمد صفر ـ كان متفقدا للتعليم اللغة العربية ـ وحدثني طويلا، عندما كبرت، عن علاقة والدي وجدالاته مع زميله وصديقه الحبيب بورقيبة. كان والدي- ويلتقي معه في هذا التوجه إجمالا الحكيم محمود الماطري والبحري قيقة– مقتنعا كامل الاقتناع أن انسلاخ المجموعة الشابة عن اللجنة التنفيذية وتصميمها على بعث الحزب الدستوري الجديد كان أساسا يهدف للخروج من احتكار النفوذ الفردي والقرار الفردي- ولا ننسى أن انطلاقة الخلاف الأول كان سببه توجيه لوم وتوبيخ لبورقيبة من طرف بعض أفراد من اللجنة التنفيذية بدون احترام مقتضيات النظام الداخلي للحزب- وكان الحبيب بورقيبة قد قام بمبادرة  سياسية من المفروض أن يشكر عليها ورأى بورقيبة بأنه لن يبقى في حزب لا يمكنه من أبسط المبادرات وتنفرد بعض القيادات فيه بأخذ القرار دون الرجوع إلى الهياكل.
فالسبب الأول لبعث حزب جديد كان إذا ـ بدون ريب ـ  يتمثل في أخذ قرار فردي تعسفي، لو كانت فكرة الديمقراطية موجودة وراسخة والثقة كاملة الشروط، لكان عقد اجتماع اللجنة التنفيذية  ـ الذي نظر في مبادرة بورقيبة ـ بحضور جميع الأعضاء القدامى والجدد وحصل حوار يجنب الانقسام. إذا يمكن الاستنتاج بأنه بالرغم من تواجد حركة فكرية غزيرة ونيرة وتعددية في تلك الفترة، كانت أحزابنا منذ البداية تتصرف بنوع من التصلب والانفراد بالقرار. والانشقاق كان ثورة على الانفراد بالقرار في التسيير وكذلك على طرق اعتبرت بالية للعمل في الحزب وكذب عن الشعب وعدم الالتصاق بالشعب للرفع من مستواه وإعداده لمعركة التحرير والشعور بأن الحزب كان نخبويا خاصة بعد مغادرة الثعالبي لتونس. وهذا الذي يجب إبرازه لنفهم كيف أن فكرة الديمقراطية التي ربما غذتها الحركة الفكرية لم تجد لها تجسيما في الواقع اليومي لتسيير الحزب القديم وفي نشاطه. وسيتكرر البعض من نفس الأغلاط في الحزب الجديد: ففي قصر هلال عندما انبعث الحزب، كانت كلمة الافتتاح  الرئيسية ألقاها والدي في الصباح وكلمة الاختتام ألقاها الحبيب بورقيبة في المساء, وبالرجوع إلى الوثيقة التي لخص فيها الصحفي والشاعر سعيد أبو بكر أشغال هذا المؤتمر تحت أسم دستوري محايد , نجد أن من أول الجمل التي نطق بها والدي هي: " نريد أن يكون حزبنا حزب ديمقراطي على غرار الأحزاب الغربية الكبرى", هذا في اعتقادي شيء هام. فقد كان بدون أي شك انبعاث الحزب الجديد مقترنا بإرادة قوية حول ضرورة تبني الحزب منهجا ديمقراطي أصيل و تقاسمت كافة المجموعة الباعثة للحزب بقناعة كبيرة هذه الارادة وكانوا يتصورون أنه محتم عليهم أن يأتوا بالحجة للمستعمر وللرأي العام الداخلي والدولي أنهم بمستواهم التفكيري و بمستواهم التنظيمي وفي أسلوبهم في العمل السياسي لا يقلون مستوى عن الأحزاب المتواجدة في فرنسا, وكانوا مقتنعين بأن المفهوم القانوني لنظام الحماية يتضمن نهايتها متى يثبت الشعب التونسي أنه قادر على تسيير نفسه بنفسه.  كانت الحماية بحكم التحليل القانوني وبحكم مجرى التاريخ ستزول يوم ما, فشعر زعماؤنا بأنه حان الوقت لكي يدخلوا في عمل جاد وطويل النفس لإعداد الشعب وتثقيفه وتأطيره وتكذيب ما كان يدعيه المستعمر بأن الشعب التونسي شعب غير قادر على تسيير شؤونه بنفسه وغير قادر على بعث نظام يضمن الاستقرار والأمن والعدل ويصمد أمام الصعاب وتناقضات المجتمع. كان المستعمر يروج بكثافة الفكرة التالية: " لو خرجت فرنسا من تونس سوف تعم الفوضى وتقضى الفتنة الداخلية على الأخضر واليابسة".
وكانت المجموعة الباعثة للحزب الحر الدستوري الجديد بمستواها التكويني وبمستواها التفكيري واعية كل الوعي بأنه يتحتم عليها أن تثبت في بلادها ثم في الخارج إنه يوجد في تونس حزب مهيكل له نظرية عصرية لنظام الحكم وله برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي يضاهي ما هو موجود في الغرب. وهذا هو التحدي الأول الذي وضعه بعثوا الحزب الجديد نصب أعينهم. ولكن ضمن هذه المجموعة وجد قائد له إرادة أقوى من غيره, وله شخصية أقوى من الآخرين, وكانت له شعلة في نفسه وشجاعة نادرة وكان بالخصوص في الثلاثنيات القرن العشرين يريد أن يسبق الأحداث, ويريد أن يسرع ويريد أن يسبق الآخرين, ويريد أن يصنع الأحداث. فلهذا دخل في مرحلة توسع الحزب وتوسع عدد تركيز الشعب ولكن لم يعط أهمية لصياغة برنامج سياسي واقتصادي حتى تكتمل نظرة هذا الحزب الواعد, فالمؤتمر الذي عقد سنة 1937 على سبيل المثال اقترح وكان  ذلك بإصرار من المرحوم والدي والمرحوم الشهيد الهادي شاكر أن تتكون لجان وأن يكون للحزب إلى جانب منهجيته السياسية برنامج اقتصادي واجتماعي عملي. ولم يحدث ذلك مع الأسف وتحملت البلاد تبعات هذه الغلطة. وسرعان ما شعرنا بهذا الفراغ عندما تقلد الحزب أعباء الحكم في سنة 1955, وفي آخر الأمر أخذ الحزب برنامجا صمم بعجل من طرف هيكل ثان كان له دور هام في المشاركة الفاعلة في معركة تحرير البلاد, وهو كما نعلم الاتحاد العام التونسي للشعل، وإن كانت بوادر هذا البرنامج أقحمها الأستاذ مصطفى الفيلالي في مؤتمر الحزب بصفاقس، وكانت مجرد خطوط كبرى. أما البرنامج في تفاصيله لم يقدمه الحزب في ما بعد بل قدمته المنظمة النقابية: الاتحاد التونسي للشغل الذي ساهم بقسط كبير في  إنجاح معركة تحرير البلاد خاصة بقيادة باعثها الشهيد فرحات حشاد. وكان على الحزب أن يكون له برنامجه  الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وأنا أتكلم  عن بعض غلطات الماضي أتصور في نفس الوقت أنه يخامر فكر الجميع أننا في المرحلة الانتخابية التي مررنا بها منذ أسابيع, شعرنا بأن الكثير من الأحزاب التي تقدمت للناخبين لم يكن لها برنامج اقتصادي عملي يأتم معنى الكلمة إلا عدد قليل من الأحزاب. وهذا هو نفس الخطأ الذي وقع فيه سابقا الحزب الحر الدستوري الجديد. وفي مرحلة محاولتها لتكسير النظام السابق ولتغيير النظام لم تنكب الأحزاب التونسية المعارضة على صياغة برامج اقتصادية واجتماعية قابلة للتطبيق في الوقت الذي من البديهي أن نقول أنه لا يمكن الحديث عن عمل سياسي جدي في ظل غياب برنامج اقتصادي واجتماعي عملي و مرقم بمهنية تعطيه المصداقية, ولا يمكن تسيير دولة دون برنامج اقتصادي عملي ناجع وقابل للتطبيق.
وفي إعتقادي لم تكن محنة الخلاف اليوسفي ـ البرقيبي  التي عاشتها بلادنا والتي كادت أن تؤدي بنا إلى حرب أهلية هي التي تفسر بمفردها وإلى حد بعيد جنوح الزعماء إلى التفكير في نظام سلطوي. فقد اقتنع بورقيبة بضرورة إرساء نظام قوي خاصة بعد مؤامرة 1962 . ولم يكن الوحيد على هذه القناعة بل سانده الفريق الذي كان حوله أيضا في فترة 1956-1962. و تواصل التعلق بالنظام السلطوي في مستوى القيادة بل تفاقم في الفترات اللاحقة وبلغ أوجه سنة 1975 مع إقرار الرئاسة مدى الحياة. و من خلال ملابسات الفتنة اليوسفية تبين للمجموعة التي تحملت أعباء الحكم أن الشعب التونسي لم تكتمل بعد لحمته ولم يكتمل تثقيفه ولا بد إذن من نظام قوي مدعم بحزب قوي يقوم بدورين أساسيين: استكمال توحيد الشعب وتدريبه على مقتضيات العيش معا وتجنيبه ويلات التطاحن الطبقي ومثل ذلك الدور الأول الذي أنجز فعلا. وكان الدور الثاني يتمثل في تدريب الشعب على مراحل لإرساء في الابان نظام سياسي ديمقراطي ناجع وهو الدور الذي لم ينجز, وقد برزت فكرة الوحدة الوطنية لتجسيم الدورين وفي نفس الوقت بناء مؤسسات الدولة الجديدة والإقدام على تحديات مقاومة التخلف الاقتصادي والاجتماعي. وكان ذلك يتطلب فعلا عملا  وجهدا متواصل وانضباطا من طرف الجميع وعدم إضاعة الوقت في المجادلات الايديولوجية. وللتذكير ولوضع الأمور في إطارها, فعندما خرجت فرنسا من بلادنا, كنا حوالي 3 ملايين ساكن,منهم 60% في حالة سوء تغذية وخصاصة فضيعة. وهذا الرقم المذهل ليس من كلام الدستوريين بل مرجعه وثيقة لا يعرفها منكم الكثيرون, وثيقة محاضرة Raymond Barre وتجدونها في مجلة Ibla ,محاضرة طويلة كان لي الحظ في ذلك الوقت أن حضرتها في السنة الجامعية 1953-1954 سنة قبل الاستقلال الداخلي. وقيل لي إن مكتبة Ibla قد حرقت ولكن من حسن الحظ أنني أحتفظ بنسخة هذه الوثيقة الهامة، لأن الأستاذ الفرنسي ريمون بار- الذي سيصبح وزيرا أولا فيما بعد في بلاده- كان متمكنا من العلوم الاقتصادية الحديثة أحسن تملك, وفي ذلك الوقت كان يدرس في معهد الدراسات العليا بتونس وكنت من بين تلاميذه في دروسه الخاصة بالاقتصاد السياسي في السنة الأخيرة من تدريسه في تونس أثناء السنة الجامعية 1953ـ1954 ومن هذه الدروس ألف  "ريمون بار" كتابه في جزأين le traité d’économie politique الذي بقي إلى اليوم كتابا مرجعيا بعد تحيينات متلاحقة. ويؤسفني كثيرا أن ألاحظ  عزوف الاقتصاديين الجدد عن مادة الاقتصاد السياسي وهم الذين انغمسوا في اختصاصات ضيقة دون أن يمروا من تكوين جيد في هذه المادة الأساسية، ألا وهي مادة الاقتصاد السياسي التي تعطي لمن يريد أن يتوغل في العلوم الاقتصادية الأسس الأولى المتعلقة بتطور العلوم الاقتصادية, وأصبح الكثير ينتقل بسرعة إلى اختصاصات جزئية في هذا المجال وينتقل إلى دراسة الأمثلة الرياضية دون أن تكون له القاعدة  المعرفية الأساسية الضرورية ألا وهي التكوين في الاقتصاد السياسي. و قد أبرزت بحدة الأزمة العالمية المالية التي انطلقت سنة 2008 هذا النقص في تكوين المختصين الجدد في الاقتصاد. وأقدمت أكبر الجامعات الأمريكية بعد الأزمة على السعي لمراجعة برامج الدراسة في الاقتصاد لإرجاع الاقتصاد السياسي كمادة أساسية. ولا أدري هل وقع في بلادنا إصلاح برامج التكوين الاقتصادي على ضوء الأزمة العالمية؟ ...معذرة عن الخروج عن الموضوع الاساسي....
فلنعد إلى قضية عدم ترسيخ المسار الديمقراطي منذ الاستقلال. وأريد التأكيد على أني لا أدعي أني أقدم حقائق مطلقة في هذا الموضوع الهام. وأعي أنني أقحمت نفسي في تحليل  قضية معقدة تختلف فيها الآراء وتتعدد فيها التحاليل. ولكن لا مناص في اعتقادي من دراسة هذا الموضوع علميا من مختلف جوانبه ومن طرف خبراء مختصين من مختلف اختصاصات العلوم الانسانية واستخلاص كافة العبر. لم نقدم بما فيه الكفاية في الخمسين سنة الماضية على التعمق وتوسع رقعة الحوار النزيه, حول شروط  نجاح وضرورة تركيز النظام السياسي الديمقراطي الحقيقي. فمن الغباوة أن نعيد الخطأ وأن لا نتعمق في مسيرتنا الماضية بموضوعية حتى نبرز بدقة كل إيجابياتها وكل نقائصها. أتمنى أن أكون مخطئا في ما سأقوله الآن: إني أخشى اليوم أن نعيد نفس الأخطاء ونفوت مرة أخرى الفرصة التاريخية لإرساء الديمقراطية الحقيقية. لذلك أنا لست مع فكرة الشهادة التاريخية للشهادة فقط. أنا مع فكرة الشهادة التي وراءها هدف أساسي: هو استخراج الدروس وأخذ العبر من خلال النقد الذاتي, لأن بناء الدول وبناء الأنظمة السليمة، لا يتم إلا بتراكم المعرفة وبتراكم التجارب واستخراج الدروس كل الدروس من التاريخ القريب والبعيد. فإن استمر الحال على ما هو عليه وبقي كل جيل يقوم بتجربته ثم ندون هذه التجربة ونكتبها ونقدم شهادات عنها ويأتي جيل آخر لا يبالي ولا يتعض بتلك التجربة وينتقل إلى تجربة أخرى ومغامرة أخرى فسوف لا نحصل في المجتمع على التراكم المعرفي الذي بدونه لا تبنى الدولة السليمة و لا تجسم فعلا الحوكمة الرشيدة المنشودة.
 كل ذلك  يجعلني ألح على شعوري بأن النقائص التي برزت في نظامنا السياسي انطلقت منذ معركة التحرير وعندما أقول على سبيل المثال إن زعماءنا أخطؤوا سنة 1937 لعدم إقدامهم على تركيز لجان تتعهد بإعداد برنامج اقتصادي واجتماعي للحزب الحر الدستوري الجديد مشيرا هكذا  إلى هفوة خطيرة دفعنا ثمنها غاليا فيما بعد. وعندما أقول بأن حزبنا بعد مؤتمر 1937 عندما لم يحترم المنهج الديمقراطية في أخد قراراته ولم يرسخ المنهج الديمقراطي لا داخل الحزب ولا في تثقيفه للشعب، أشير إلى خلل يفسر إلى حد كبير غياب الديمقراطية الحقيقية في بلادنا حتى انفجرت الثورة. لقد مهدنا منذ بداية معركة التحرير إلى الحكم الفردي لأنه حتى مؤتمر 1937 يمكن أن نقول إن الحزب الحر الدستوري الجديد بقي وفيا لمنهجيته الديمقراطية في أخذ القرار وفي احترام قانونه الداخلي الذي كان لوالدي الفضل في تحريره من ألفه إلى يائه, وكان واعيا كل الوعي بدور كل فصل وأهمية احترام كل فصل من هذا القانون. بدأ الإخلال في عدم احترام القانون الداخلي للحزب في دورة المجلس الملي الذي انعقد في مارس 1938 ولم يقع احترام القانون الداخلي للحزب أولا في مشاركة في الاجتماع بالإضافة إلى أعضاء المجلس الملي المنتخبين عدد قرابة 20 أو 30 مناضلين آخرون رأى الزعيم بورقيبة ضرورة في دعوتهم لأنه توسم فيهم الخير وأقحمهم في الاجتماع بدون أن يكون ذلك القرار  على الأقل متفق عليه في اجتماع الديوان السياسي. ثم وقع اختراق القانون الأساسي ثانية عندما لم تعرض مشاريع اللوائح على مداولات أعضاء الديوان السياسي قبل عرضها على المجلس. وترتب عن هذا الإخلال الإشكاليات التي برزت في الاجتماع.
الإشكال الأول تمثل في عملية انتخاب الرئيس الجديد للحزب. وتعلمون جميعا أنه قبل انعقاد المجلس الملي في 13 مارس 1938 كان الرئيس محمود الماطري قد استقال. وكانت الاستقالة على مرحلتين: استقالته الأولى لم ترض أعضاء الديوان السياسي, لأنه بين في الرسالة الأولى بالتفصيل الأسباب الحقيقية لاستقالته. وأقر جميع أعضاء الديوان السياسي بعد الاطلاع على مضمونها أن نشر الرسالة في صيغتها تاك سوف يجلب ضررا لإشعاع الحزب، فكلف وفدا من الديوان السياسي متكون من يوسف الرويسي والطاهر صفر للتحاور مع محمود الماطري وإقناعه بتعديل رسالته والاكتفاء بالإشارة إلى "أوضاع صحية" تفسر انسحابه من الرئاسة. وكان والدي في تمزق نفساني كبير أثناء هذه المهمة وقال لعمي أحمد: " عندما غادرنا الدكتور الماطري بعد أن حصلنا على الرسالة الثانية, وأقنعناه بالاكتفاء بالإشارة إلى أوضاع صحية, كانت عينيا ممتلئتين بالدموع لأني كنت متأثرا ومقدرا نبل هذا الرجل الذي كان له الحق في التمسك بأفكاره ومبادئه والإصداع بها لمن منحوه ثقتهم لرئاسة الحزب." وهذا ليس بالأمر البسيط كما يتصوره البعض بل هو أمر أساسي ومن البديهيات لتجسيم والتدرب على العمل الديمقراطي السليم. فرصة من الفرص تضيع للتمرس على الديمقراطية داخل نشاط الحزب.
ثم وخلافا لما ورد في بعض الكتب فيما يتعلق بانتخاب الرئيس الجديد في اجتماع المجلس الملي يوم 13 مارس 1938 لم يقع اقتراح من أي كان اسم مرشح لرئاسة الحزب وعرضه على التصويت, بل وقف جميع الحضور بعفوية وهتفوا باسم الطاهر صفر لتحمل أعباء رئاسة الحزب. ووجد الطاهر صفر أمامه إخوانه المناضلين ينادونه بتحمل المسؤولية, فقبل المسؤولية متأثرا ومتصورا أن هذا الحماس الذي أبداه هذا الإجماع مرتبط بقناعة من طرف كافة المشاركين بأفكاره وتصوراته بالنسبة لمرحلة خطيرة في مسار الحزب. ولكن سرعان ما خاب ظنه إذ فوجئ بعد حوالي ربع ساعة بتقديم لائحة سياسية تتلى على المجلس وتوجد فيها فقرة خاصة بالتصعيد. كان والدي قد طلب إزالتها في اجتماع الديوان السياسي وحصل الاتفاق على ذلك بعد اقتناع الحضور بصحة وجهة نظره. وكان للطاهر صفر تحليل معمق وشامل للوضع العالمي يفسر به خطورة وعواقب التصعيد على الحزب في تلك الفترة. وكان المناضلون يعرفون حق المعرفة أن الطاهر صفر رجل رصين يخاطب الفكر قبل مخاطبة العواطف ولا ينزلق إلى الانفعال. ولكن انفعل الطاهر صفر في ذلك اليوم وبشدة بعد أن استمع إلى مضمون الائحة المنقحة المعروضة وهو الذي عادة لا ينفعل بسهولة وغادر والدي  قاعة اجتماع المجلس الملي بعد الإعلان عن تخليه من الرئاسة التي كان قد قبلها لبرهة من الزمن. وكان في قرارة نفسه مصمما على الاستقالة كذلك من الديوان السياسي .
أمام هذا الوضع لم ير بدا الرئيس بورقيبة إلا أن أتى إلى منزل صديقه وذلك حوالي أسبوع بعد انعقاد المجلس الملي, وكان المنزل في باردو بنهج البرتقال وكنت في الخامسة من عمري. أتى الرئيس بورقيبة مع ابنه ودخل للحوار مع والدي, وانفرد به وكان الحديث طويلا في ذلك اليوم بين الحبيب بورقيبة وصديقه الطاهر صفر, ولم أعلم بفحواه إلا بعد أن كبرت ورأى عمي أحمد صفر من المفيد إعلامي بمضمونه. وكان والدي بعد أن خرج من السجن العسكري والمدني في سنة 1939 قد بدأ في تحرير مذكراته لتغطية الفترة بين 1936 إلى سنة 1939 وليروي لنا كل ملابسات تلك الفترة الغزيرة بالأحداث. ولكن لما زاره الدكتور محمود الماطري في منزله ولاحظ خطورة وضعه الصحي وطلب منه الانتقال بسرعة إلى مستشفى عزيزة عثمانة, طلب والدي من والدتي قبل أن يخرج من المنزل أن تحرق ما حبره. وقال لها بالحرف الواحد: "ما حبرته قد كتبته للتاريخ ولكن نحن الآن نعيش تبعات حرب عالمية وربما تمتد هذه الحرب إلى تونس "- وكان هذا الكلام يوم 5 أوت 1942 - وأضاف والدي : "ربما تسقط هذه الأوراق في أيادي تريد الضرر بالحزب وتضر بمستقبل البلاد". ولم يخرج والدي من المنزل إلا بعد التأكد من حرق المذكرات التي حبرها, وبقي حتى الآن أمام عيني دخان هذه الأوراق التي كتبها والدي على أوراق صفراء بحبر بنفسجي اللون وملأ بها درجيْن من مكتبه بالمنزل. ويبقى ما رواه والدي لجدي ولعمي أحمد عن تلك الحقبة من تاريخ بلادنا شيئا قليلا بالنسبة للتفاصيل التي كان قد كتبها ثم أذن بحرقها.
وما بلغني عن فحوى الحوار المطول الذي دار بين الزعيم الحبيب بورقيبة ووالدي هو مجرد حوصلة تفيد بأن بورقيبة أتى أساسا وقتها ليقنع والدي بعدم الاستقالة من الديوان السياسي. وقال له إنه بعد استقالة سي محمود الماطري تصبح هذه الاستقالة الثانية مضرة بالحزب. وكان بورقيبة يعرف مسبقا أن الطاهر صفر لن يرضى بالمضرة للحزب. ثم أردف بورقيبة قائلا: "نحن بعثنا حزبا كبيرا وجماهيريا على غرار الأحزاب العصرية التي تتعايش فيها تيارات مختلفة تتفق على الهدف الأساسي ويمكن أن تختلف في بعض السبل والمناهج. وهذا أمر معقول ومقبول أن يتواجد بحزب كبير تيارات تتفق على الأهداف ولكن ربما تختلف على الجزئيات. ولكل تيار الحق في أن يجاهر بأفكاره. أخذت يا طاهر موقفا معروفا من الخاصة والعامة, وموقفك موجود بالجرائد العربية والفرنسية والمناضلون مطلعون على موقفك والسلط الاستعمارية على علم بمواقف كل منا. ثم من حق كل طرف أن يجاهر كلما اقتضى الأمر ويتمسك بموقفه".
فعلى هذا الأساس الموضوعي والمبدئي وبعد هذا الحوار تراجع والدي عن قرار استقالته من الديوان السياسي ولكنه اغتنم الفرصة ليعيد لذاكرة زميله عددا من المواضيع التي كان قد تناولها بالتحليل معه مسبقا: وفي مقدمتها قضية الموقف الرسمي للحزب من النازية والفاشية, وقال الطاهر صفر لصديقه ربما هنالك قليل من الإخوة في الحزب تمكنوا من دراسة الكتاب الرديء التحرير ولكنه خطير الابعاد ,كتاب "أدولف هتلر" كفاحي. قال له أنا درسته بإمعان وبقيت أتابع بصفة دقيقة الأوضاع العالمية, نحن مقبلون على فترة حاسمة في تاريخ الإنسانية سوف تغير الوضع الجيوسياسي وموازين القوى على مستوى العالم, ثم نحن لنا حزب ديمقراطي له تصوراته لنظام الحكم الذي يبتغيه ويريد أن يكسب الاستقلال بعمل سياسي منظم وذا بعد إنساني. فلا بد لنا من الآن أخذ موقف كتابي من الفاشية ومن النازية بالخصوص, وفي ذلك العمل مصلحتان: فأولا عندما نأخذ هذا الموقف الكتابي نتوفق إلى توعية إطارات الحزب بأبعاد وأخطار هذه الأنظمة التي تسعى الأحزاب الشمولية فرضها على الإنسانية جمعاء, بما فيها الدول التي تطمح للتحصيل على استقلالها. والمصلحة الثانية تكمن في الاحتفاظ بوثيقة مرجعية رسمية نستظهر بها عند الحاجة لتبرئة ذمة هذا الحزب من الاتهامات المغرضة التي من الآن نلاحظ بوادرها. ونجد في الجرائد نعوتا من طرف غلاة الاستعمار بأن الحزب الدستوري الجديد عبارة على مجموعة من الفاشيين أو المتعاملين مع الفاشية, وهي اتهامات خطيرة".
تجاوب الرئيس بورقيبة مع هذا التحليل, وقال لوالدي: "أفهم كل ذلك ولكن أختلف معك في التوقيت لأني الآن منكب على عملية التصعيد التي سأقدم عليها, وأنا على يقين من وضرورة القيام بها. وهنالك كر وفر في الظرف الراهن وإن لم أقم بالتصعيد ستظهر مزايدات داخل الحزب ويفلت ربما الحزب من يدي, أو يفقد الحزب مصداقيته". كان هذا الحوار بين الرجلين حوارا ثريا ومصيريا. وقد أظهرت أحداث المستقبل صحة ووجاهة النظريتان: لقد أعطت أحداث أفريل 1938 للحزب الحر الجديد مصداقية نضالية كبيرة ولكنه تضرر كذلك كثيرا وكانت رسالة بورقيبة للحبيب ثامر المنبهة من خطر التعاون مع النازية متأخرة... ولم تستطع تعويض الوثيقة المرجعية التي نادى بها والدي ولم تنجز مع الاسف... ولو أنجزت هذه الوثيقة ألم يكن لها دور لترسيخ منهج ديمقراطي ولو في عدد نسبي و فاعل من مناضلي الحزب ؟
وفي تصوري أن هذا الخطأ –عدم أخذ موقف واضح ومبكر من النازية- قد حرم الحزب من أن تكون بين أيدي مناضليه وثيقة بها تحليل لعيوب كل من النظام النازي والفاشي. ومع انعدام وجود مثل هذه الوثيقة لم يكن للحزب الحر الدستوري الجديد موقف واضح من هذه الأنظمة وربما يقي نفسه من الانزلاق في بعض سلوكيات هذه الأحزاب الشمولية.. وقد دفع التونسيون الذين تعاونوا مع الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، ثمنا باهظا لأن الحزب لم يقم بواجب التوعية والتنبيه في الوقت المناسب. وإن نلاحظ بعض الأخطاء وبعض الانزلاقات في الحزب أثناء معركة التحرير تفسرها صعوبة مقاومة المستعمر وما يحتمه من ضرورة الانضباط فلا نجد مبررات مقنعة للزيغ نحو الانفراد بالحكم وتغييب المنهج الديمقراطي في هياكل الحزب في فترة ما بعد الاستقلال وخاصة ما شهدناه بعد مؤتمر بنزرت عندما أصبحت اجتماعات لجان التنسيق الحزبي تحت رئاسة الوالي وفي مؤتمر سنة 1986 عندما أصبح حتى أعضاء اللجنة المركزية معينين. وكانت قد ضاعت فرصة دمقرطة الحزب في مؤتمر المنستير سنة 1971 وكلنا يعلم أنه لا يمكن أن يخرج من رحم حزب لا يتدرب على الديمقراطية الحقيقية داخله إلا نظام حكم سلطوي. وكانت نهاية الحلم بإرساء نظام ديمقراطي في بلادنا في سنة 1975 مع إقرار الرئاسة مدى الحياة.
وفي المرحلة الأولى من بناء مؤسسات البلاد بعد الاستقلال تحمس الجميع, وأعترف أني كنت من بين الذين تحمسوا إلى مفهوم الوحدة القومية, وأتذكر أني أصدرت في سنة 1956 مقالا في مجلة "السبيل" مجلة الكشافة الإسلامية التونسية جوابا على سؤال توجه لي به القائد محمد التريكي: كيف ترى الغد بعد تحقيق الاستقلال؟ وكان عنوان مقالي إجابة عن هذا السؤال: "جهاد متواصل من أجل تحقيق العزة والكرامة في وطننا" ونبهت في المقال من مخاطر الأحزاب التي تغذي تطاحن الطبقات مثل الأحزاب الشيوعية. وأكدت في هذا المقال -رغم نقص خبرتي السياسية- على أنه لا مناص لنا في تلك الفترة إلا من وحدة قومية صلبة نتمكن بفضلها من تخطي تحديات جسيمة تنتظرنا. ولكن تصورنا للوحدة القومية كان لا يتنافى مع مسار ديمقراطي داخل الأحزاب وفي صلب النظام. وكان الانزلاق التدريجي نحو الحكم الفردي في وطننا بعد الاستقلال اختيارا نابعا من القيادة وأساسا من الزعيم الحبيب بورقيبة وبطانته الخاصة ولم يكن اختيار القواعد الحزبية ولا اختيار الشعب...
6ـ تعميم التعاضد بدون الرجوع إلى مؤتمر استثناءي للحزب مسؤولية جماعية كان السيد أحمد بن صالح ضحيتها.
ومن منطلق تصوري كان بالإمكان إرساء نظام ديمقراطي تعددي مباشرة بعد فشل تجربة تعميم التعاضد – هذه التجربة التي ذهب ضحيتها الأستاذ أحمد بن صالح في الوقت الذي كانت المسؤولية جماعية. كما يعلم الجميع لم يقرر مؤتمر بنزرت تعميم التعاضد بل أقر منهجا تنمويا سليما يضمن التوازن والمبادرات في القطاعات الثلاثة: القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع التعاضدي وكل ذلك مع ضمان حرية الاختيار. ثم وقع الانزلاق نحو الإجبار ثم التعميم, وهو تحول كبير كان يفرض الرجوع إلى مؤتمر جديد مؤتمر إستثناىء للبث في قضية في منتهى الخطورة... ولكن وقع إقرار التعميم داخل اللجنة المركزية بغموض كبير. ولو كان الحزب ديمقراطيا حقا في أخذ قراراته لما كان يحدث هذا الانزلاق الخطير. حضرت افتتاح مؤتمر بنزرت وكذلك الاختتام ودرست لوائح الحزب وكنت متحمسا للمنهج الذي توخاه الحزب، لأنه كان نهجا ملائما في تلك الفترة, لظروفنا الداخلية, وكذلك للظروف العالمية. وفعلا ساندت المنظمات المالية الدولية ومنها البنك العالمي منهج التخطيط التونسي ومنهج التنمية الذي يعتمد على توازن ذكي في تطوير القطاعات الثلاثة. وكنت أرى في تجربة التعاضد الاختياري وسيلة من وسائل مقاومة التشتت العقاري وكذلك وسيلة مثلى لتدريب التونسيين على العمل الجماعي- وهي صفة تنقصنا مع الأسف- وما يقتضيه من تنظيم محكم وشفافية وتعاون ولحمة اجتماعية. ولو وقع الاستمرار على هذا المنهج دون إجبار ولا تعميم مع توخي سياسة المراحل تتماشى مع تكوين الإطارات المقتدرة، لكانت بلادنا تحصلت على نتاج باهرة خاصة في الفلاحة كنا نلمس مزاياها حتى اليوم. كان التعاضد الاختياري الذي أوصى به حتى الاقتصادي الليبرالي ريمون بار ـ في المقال الذي أشرت إليه في بداية هذا الحديث ـ ملائما تماما لأوضاعنا ويمثل التعاضد مدرسة للتدرب على العمل الجماعي الضروري لإنجاح كل عملية تنمية مستدامة وصلبة. و إني أعتقد أن الكثير من نقائصنا التنموية ترجع إلى ضعف قدرتنا في مختلف المستويات على العمل الجماعي لأننا نشكو تضخم الأنا. وتضخم الأنا في مجتمعنا يخفض من نجاعة العمل ومن الإنتاجية على عكس ما هو موجود في اليابان وفي البلدان الآسيوية. فالياباني وحده لا يقدر على القيام بشيء والعمل في اليابان هو عمل جماعي أو لا يكون. ورأينا في التمشي السليم للتعاضد فرصة ذهبية لتدريب التونسي تدريجيا على العمل الجماعي المنضبط وانطلقت قضية التعاضد في البداية من خلال تمشي عقلاني.
كنت في ذلك الوقت مديرا عاما لوكالة التبغ والوقيد, وكانت تسمى في مرحلة أولى مصلحة الاختصاصات, أرسلني لها الأخ أحمد بن صالح, كنت ملحقا بديوانه في سنة 1961, مع عبد العزيز الأصرم وكان البشير ناجي رئيس ديوان. كنا في مكتبين متجاورين وكنا في تلك الفترة على أبواب معركة بنزرت. ومدني ذات يوم الأستاذ أحمد بن صالح بتقرير دسم فيه تدقيق من طرف المراقب المالي السيد سلطان العبيدي يتعرض إلى عدد هام من أخطاء التصرف في مصلحة الاختصاصات، وهي مصلحة تابعة لوزارة المالية تموّل ميزانية الدولة, ومواردها كانت تقارب على الأقل 12% من موارد ميزانية الدولة. و كان عمال وموظفو هذه المصلحة في غليان في تلك الفترة يتظاهرون أمام الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان على رأسه المرحوم أحمد التليلي ويطالبون بالتغيير في طرق التصرف وهم يصيحون "لا شيء قد تغير عندنا بعد الاستقلال" ويطالبون بمنحة الإنتاج . قدم لي أحمد بن صالح التقرير وطلب مني دراسته فطلبت منه مهلة ليومين للقيام بدراسته بعمق، ولكن دعاني في الغد وطلب مني أن أتحمل فورا مسؤولية إدارة مصلحة الاختصاصات, فأظهرت اشمئزازي وقلت له أنا لم أدرس سنوات طويلة من أجل أن أصبح صانع سموم للمواطنين و إني أكره التبغ, فأعلمني أننا مقبلون على حرب ونحن نعيش ظروفا استثنائية وأضاف: "اعتبر نفسك مكلف بمهمة أكيدة ووقتية لإنقاذ المؤسسة التي بها أكثر من ألف عامل وتمثل مورد هام لميزانية الدولة."
هذه المهمة الوقتية تواصلت من 1961 حتى 1968 وفي غرة جانفي 1969 أصبحت المدير العام للأداءات خلفا  للمرحوم محمد السبعي الذي كان قد عين على رأس الخزينة العامة للدولة التونسية. وفي مصلحة الاختصاصات عشت تجربة التعاضد في مرحلتها الأولى وذلك من خلال نشاطي عندما تكونت أول وحدات إنتاجية في الشمال الغربي وكان إنتاج التبغ في تونس الذي يمثل 50% من استهلاكنا جله يأتي من جهة طبرقة, وغار الدماء, وسجنان, وجندوبة. كانت حوالي 25000 عائلة تعيش من موارد زراعة التبغ  وكانت تراقب المصلحة سنويا زراعة التيغ في مختلف مراحلها, حتى لا يقع التهريب, ثم تتوالى المصلحة شراء كامل المنتوج في نهاية كل موسم. فعندما أقحمت هذه العائلات المنتجة للتبغ في الوحدات التعاضدية ومن السنة الأولى انهار إنتاج التبغ إلى أكثر من 50%.
وجهت رسالة مفصلة إلى وزير المالية والتخطيط السيد أحمد بن صالح وقدمت في الرسالة مقترحات عملية لتلافي الأمر الخطير بعد أن درست الوضع مع المسؤولين عن زراعة التبغ في المصلحة و وكذلك مع والي جندوبة, ووجدت منهم تقبلا كاملا لمقترحاتي: وبينت أن خصوصيات زراعة التبغ من مرحلة المشاتل إلى الزراعة، ثم الحفاظ على ورقة التبغ ثم تجفيفها تستدعي كلها عملا مضنيا وعناية كبيرة تسهر عليها  عادة كافة أفرد العائلة حتى يأتي المحصول إلى الوكالة في ظروف طيبة ويكون شراؤها بثمن معقول يفي بحاجيات العائلات الفقيرة. وكنت أزور شهريا هذه المناطق وأتحدث مع هذه العائلات وعندما اكتشفت النتائج الحاصلة بعد الاندماج في التعاضديات امتلأت عيناي بالدموع لأنني كنت أعرف وضع هذه العائلات وأقدر تأثير نقص ب 50% من مواردها.
في نطاق خصوصية هذه الزراعة اقترحت على وزيري أن نتوخى التدابير التالية: تقوم التعاضدية بأشغال إعداد الأرض من حرث وغيره من الخدمات الجماعية ثم تخصص مساحة معينة لكل عائلة، وتقوم العائلة ببقية الأشغال كافة بقية الاشغال حتى عملية التجفيف. ثم تقدم العائلة محصول عملها للمصلحة لشرائها وتخصم من المبلغ كلفة خدمات التعاضدية. ضمنت كل هذه التدابير في الرسالة ووجهتها إلى الوزارة وكنت أعرف عندما كنت في الديوان أن الأستاذ أحمد بن صالح يحمل نفسه قراءة كل ما يصله، ولكن لم يخاطبني الأستاذ أحمد بن صالح, بل خاطبني المدير خالد بن عمار الذي كان يشرف في كتابة الدولة للفلاحة على التعاضديات, وهو زميل لي وقد درس بالمدرسة القومية للإدارة الفرنسية, وهو ابن الطاهر بن عمار الوزير الأول الذي أمضى على اتفاقية استقلال تونس. اتصل بي وقال: "سي رشيد قرأت رسالتك, هل تريد أن تهدم لنا مشروع التعاضد؟"، فأجبته بأنني قدمت له في رسالتي كافة المعطيات بموضوعية على أساس نتائج مرقمة لا نزاع فيها وتتعلق بتجربة لسنة كاملة ثم أني أرسلتها للوزير فما عليك إلا تبليغ اقتراحاتي للوزير كي نتلافى في الصابة المقبلة خسائر كبيرة للعائلات ولميزانية الدولة،" وأضفت: " أنا قدمت اقتراحات عملية توفق بين مصلحة التعاضدية ومصلحة العائلات الضعيفة الدخل ومصلحة ميزانية الدولة وحتى ميزان المدفوعات الخارجية فمن فضلك لا تقحمني في مسائل إيديولوجية, فإن كانت لك اقتراحات عملية أفضل أعلمني بها في رسالة الرد وإذا كنت لن تجيبني على رسالتي سأعتبر السكوت علامة على الرضى,  وسأنسق التنفيذ مع والي جندوبة وهو موافق تماما على مقترحاتي. وكان الأمر كذلك وفعلا انطلقت في تنفيذ مقترحاتي ورجع الإنتاج إلى مستواه العادي ولم يعارضني سي أحمد بن صالح في هذا التمشي المنطقي, وحتى عندما زرته في منزله بعد إزاحته من مسؤولياته في سبتمبر 1969  مع زميلي السيد المنصف بن الحاج عمر مدير الميزانية العامة للدولة لم يحدثني عن هذا الموضوع أبدا.
وبدأت في سنة 1969 تبرز إشكالية تفاقم ديون وخسائر بعض المؤسسات العمومية وبعضها كان راجعا لأسباب هيكلية وبعضها كان ناتجا عن خلل في التصرف. وكنا مجموعة من الإطارات العليا نحضر في لجنة الدراسات للحزب الذي كان مقرها أمام الحزب في نهج روما في عمارة بها قاعة اجتماعات فسيحة كان يحضر في هذه الاجتماعات بالخصوص الأستاذ الهادي نويرة والحبيب بورقيبة الابن والأستاذ أحمد بن صالح الذي كان يترأس الاجتماعات ويديرها, وكنت مسؤولا على إدارة الأداءات وكنت مسؤولا كذلك كمراقب مالي لثلاث مؤسسات عمومية منها الشركة التونسية للكهرباء والغاز التي كان يديرها في تلك الفترة السيد بكار التوزاني. ومع عدد من الزملاء أثرنا في اجتماع من اجتماعات لجنة الدراسات موضوع تفاقم خسائر بعض المؤسسات العمومية وذكرنا بعض الأسباب ودعونا إلى أخذ التدابير اللازمة. واستمع إلينا الجميع بانتباه, وفرح الأستاذ الهادي نويرة بطرح الموضوع من القاعدة وتجاوب معنا الأستاذ أحمد بن صالح بكل تلقائية وفي نهاية الحديث تقرر تشكيل لجنة متكونة من التيجاني حرشة, ورشيد بن يدر, محمد غنيمة ورشيد صفر لإعداد دليل حسن للتصرف في المؤسسات العمومية, كان هذا في شهر ماي 1969 .انطلقنا نعمل وكنا في غالب الوقت نجتمع أسبوعيا في منزلي خاصة في فصل الصيف وتتم الاجتماعات في المساء للتحاور ولتقارب وجهات النظر, وعندما انتهينا من صياغة هذا الدليل في خريف 1969 برزت للعموم ما سمي بأزمة التعاضد  ، وأنتم تعرفون تفاصيلها. وكان من المفروض الاقتصار على قرار سياسي وكانت محاكمة الأستاذ أحمد بن صالح في غير محلها, ومظلمة في حقه وخطأ سياسي فادح تحملت تداعياته البلاد. قد تحمس ربما الرجل في الحقيقة للتعميم السريع و لكن لم يكن بمفرده وقد تفاعل معه الكثير من المسؤولين الكبار في الحزب وفي الحكومة بمن فيهم رئيس الدولة نفسه الذي كان في المقدمة. وقد اعترف بذلك بعد رجوعه من فرنسا بعد مرضه الخطير. قد اعترف الرئيس بورقيبة في خطابه أنه أخطأ في توجهه ولكن اعتبر أن بن صالح هو الذي غالطه لإبراز نتائج إيجابية كبيرة... وفي الواقع هنالك فعلا نتائج إيجابية بالنسبة للمرحلة الأولى منها خاصة  تلك التي كانت فيها التجمعات التعاضدية مكونة من الأراضي الدولية التي انطلقت فيها الأعمال بتنظيم محكم من طرف إطارات ذات كفاءة. ولكن لم تكن لنا إطارات متوفرة لعملية التعميم وأصبحت التجمعات إجبارية خلافا لما أقر في مؤتمر الحزب وأقحم حتى القطاع التجاري في العملية.
بمجرد أن بلغنا قرار التعميم اتفقت مع زميلي المنصف بالحاج عمر مدير ميزانية الدولة على طلب موعد لمقابلة السيد أحمد بن صالح في مكتبه بالقصبة. وبقيت صورة هذه المقابلة الاستثنائية  راسخة في ذاكرتي لا تمحى. وقلنا لوزيرنا بكل صراحة ما مفاده :" نحن لسنا سياسيين محنكين ولكن بحكم مسؤولياتنا كإطارات على رأس إدارات إستراتجية بالنسبة لاقتصاد البلاد رأينا من واجبنا أن نلفت نظركم إلى المخاطر التي تنتظرنا من خلال قرار التعميع وخاصة أننا نعتقد أنه لا يوجد أي مبررإقتصادي عقلاني ولا علمي ولا تقني يفسر مثل هذا القرار المتسرع من جميع الجوانب, فليست لدينا الإمكانيات للإقبال على هذا التعميم السريع والكارثي من جميع الأوجه, وبالرغم من انطلاق مدرسة التعاضد في تكوين الإطارات فيبقى عددها غير كاف." انطلقنا في تحليلنا للأوضاع لا من منطلق إيديولوجي بل من منطلق عملي وفني وكان واجبنا يملي علينا هذا التحذير لوزرينا الذي كنا وبقينا نكن له كل التقدير. أجابنا السيد بن صالح بأن القرار هو قرار السيد الرئيس الذي يكون قد قال له: أسرعوا وأنجزوا قبل أن أرحل عنكم ولن تستطيعوا أبدا تحقيق هذا العمل الجبار بعدي. " خرجنا من مكتب وزيرنا محتارين..ولما وضع السيد أحمد بن صالح تحت الاقامة الجبرية امتعضنا و قمنا بزيارته في مقر إقامته برادس للتعبير له عن تقديرنا للمجهودات الكبيرة التي قام بها. وبقيت في ذاكرتي توصيته ونحن نستعد لمغادرة منزله :" حافظوا على تفانيكم في خدمة الوطن وحافظوا على نظافة اليد."
عندما وقع تعييني مدير الأداءات في شهر جانفي 1969 اتصل بي هاتفيا سي الهادي نويرة وكان محافظ البنك المركزي وبعده, المرحوم علي الزواوي وكان محافظا مساعدا للسيد نويرة وقالا لي نفس الكلام:" سي رشيد نهنئك بالمسؤولية الجديدة الثقيلة ولكن كيف ستفعل لتحقيق استخلاص موارد الدولة؟ " كانت تلك التهنئة الهاتفية الثنائية قد زادتني يقظة وجعلتني أشعر أني أمام تحد كبير وابتكرت إلى جانب عدد من الاصلاحات التنظيمية الاكيدة طريقة جديدة لمتابعة دقيقة وتحليل معمق لنتائج مختلف أنواع الاستخلاصات الجباءية شهريا وذلك على المستوى كل ولاية ثم على المستوى القومي. وباشرت طيلة السنة هذا العمل بنفسي مع تشريك كافة رؤساء المصالح وكنا نأخذ التدابير العملية على ضوء تلك المتابعة الدقيقة والشهرية, وأعتقد أن المؤرخين سيجدون في وثائق الخزينة كافة الأرقام التي تفسر كيف أنه في هذه السنة التي اعتبرت سنة أزمة مالية من جراء تعميم التعاضد قد توفقنا في إدارة الأداءات إلى الاقتراب من تحقيق استخلاصات الموارد المقدرة في قانون المالية الخاص بميزانية الدولة لسنة 1969 الذي صادق عليه مجلس النواب في ديسمبر 1958. وهذا يبين بما لا شك فيه أن الأزمة من الناحية المالية لم تكن بالخطورة التي قدمت بها خاصة إذا ما قورنت بأزمة 1986.
في قراءة موضوعية للتاريخ فوائد جمة ولا تنقص هذه القراءة من قيمة من اجتهد وعمل بصدق ولا تنقص من قيمة من تحملوا المسؤوليات في مرحلة معينة. وعلينا أن نعترف بأخطائنا لأن الأخطاء هي من سمة البشر, والكمال غير موجود في البشر, والعمل يكون غالبا منقوصا وذلك حتى في المجتمعات التي تنعم بالحرية وبالديمقراطية. وفي العمل الاقتصادي وفي العمل السياسي ليس هنالك حلول مثلى, ثمة حلول بها أقل عيوب من غيرها. والأستاذ الهادي البكوش الحاضر معنا اليوم بإمكانه أن يفسر لنا نسبية اتخاذ القرار في المجال السياسي.
أما فيما يخص الاقتصاد وخلافا لما يتصوره الكثير فإن العلوم الاقتصادية ليست بالعلوم الصحيحة وبالرغم من توغل الرياضيات والأمثلة الرياضية في الاقتصاد، يبقى منطلقه الأساسي العلوم الإنسانية. نعم منطلق الاقتصاد هو أساسا العلوم الإنسانية...
الأزمة المالية العالمية التي انطلقت من البنوك الأمريكية سنة 2008 هي كذلك أزمة العلوم الاقتصادية ومن بين العناصر المفسرة للأزمة نجد البرمجيات الإعلامية التي صممت لبيع وشراء الأسهم في البنوك والمؤسسات المالية. وهي برمجيات أصبحت خارجة أحيانا عن نطاق يد البشر والإطارات وأصبحت الحواسيب بصفة أوتوماتيكية اعتمادا على هذه البرمجيات تقرر بمفردها بيع وشراء الأسهم والرقاع والمنتجات المالية المعقدة والغامضة في لمح البصر وعلى مدى الأربع والعشرين ساعة في سوق مالية عالمية لا تنام وبدون الضوابط الضرورية لكل عمل بشري. وأن كبار الاقتصاديين يعرفون حق المعرفة أنه مثلما هو الشأن في المجال السياسي، يبقى القرار الاقتصادي مجرد اجتهاد بشري.. لذلك من واجب الاقتصاديين تقديم كل الحلول المتاحة مع تبيان فرضياتها ومزاياها وكذلك عيوبها. ويبقى على السياسيين أخد القرار. وفي الفترة الأخيرة التي عاشها العالم في ظل عولمة متوحشة وبلا ضوابط، طغت غالبا القرارات الاقتصادية المتعلقة بإزالة الضوابط على القرارات السياسية التي كان من واجبها تهذيب توحش العولمة. فالأزمة العالمية حتمت الرجوع إلى تدخل الدولة أي إلى القرار السياسي..
لقد مر الوقت بسرعة ولم أتناول مواضيع كثيرة منها الأزمات الكثيرة التي عشناها مثل أزمة جانفي 1978 وأزمة الخبز في جانفي 1984 وأزمة 1986 ونهاية عهد بورقيبة وفساد عهد بن علي.. ولكن نظرا لقصر الوقت في هذا اليوم نكتفي بهذه المقدمة التي يمكن أن نستخرج منها على الأقل درسا أوليا يصلح للمستقبل: في الخمسة العقود الماضية حققنا إنجازات كبيرة لا يمكن إنكارها في مقدمتها تحرير المرأة ونشر التعليم وتعميمه وتركيز نسيج اقتصادي محترم ولكن ارتكبنا أخطاء جسيمة وعشنا أزمات خطيرة كان بالإمكان تفاديها لو كانت الديمقراطية الحقيقية متوفرة داخل الأحزاب السياسية وفي المنظمات وفي المجتمع المدني وفي النظام السياسي للبلاد.
د. عبد الجليل التميمي:
شكرا على هذه الرسالة الناضجة هذه رسالة من مسؤول عرف خبايا الدولة, أنا أهنئك بهذه الحصيلة الثمينة والفاعلة جدا، وأعتقد أنك الآن بهذا الأسلوب السهل الممتنع فد أبلغتنا كل هذه التأرجحات بأمانة وبصدق وبشفافية.